الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الكريم الوهاب وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله والأصحاب أما بعد:
فإن التوبة وظيفة العمر وبداية العبد ونهايته وأول منازل العبودية وأوسطها وآخرها.
وإنّ حاجتنا إلى التوبة ماسّة بل إنّ ضرورتنا إليها ملحّة فنحن نذنب كثيرا ونفرّط في جنب الله ليلا ونهارا فنحتاج إلى ما يصقل القلوب وينقّيها من رين المعاصي والذنوب.
أيها الصائمون الكرام: التوبة هي: ترك الذنب علما بقبحهوندما على فعله وعزما على ألا يعود التائب إليه إذا قدر وتداركا لما يمكن تداركه من الأعمال وأداء لما ضيع من الفرائض إخلاصا لله ورجاء لثوابه وخوفا من عقابه وأن يكون ذلك قبل الغرغرة وقبل طلوع الشمس من مغربها.
أيها الصائمون الكرام: لقد فتح الله _بمنّه وكرمه_ باب التوبة حيث أمر بها ووعد بقبولها مهما عظمت الذنوب.
قال_تعالى: (وأنيبوا إلى ربّكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون) (الزمر:54).
وقال: (وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السّيّئات ويعلم ما تفعلون) (الشورى:25) .
وقال: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما) (النساء:110) .
وقال في شأن النصارى: (لقد كفر الّذين قالوا إنّ اللّه ثالث ثلاثة وما من إله إلّا إله واحد وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ الّذين كفروا منهم عذاب أليم) (المائدة:73) .
ثم قال_جلّت قدرته_محرضا لهم على التوبة: (أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه واللّه غفور رحيم) (المائدة:74) .
وقال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحفر لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: (إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم ولهم عذاب الحريق) (البروج:10) .
قال الحسن البصري رحمه الله: (انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة). ا ه.
بل إنه_عز وجل_حذّر من القنوط من رحمته فقال: (قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعا إنّه هو الغفور الرّحيم) (الزمر:53) .
قال ابن عباس_رضي الله عنهما_: (من أيّس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله_عز وجل_).
أما فضائل التوبة وأسرارهاوبركاتها فمتعددةمتنوعةمتشعبة فالتوبة سبب الفلاح وطريق السعادة وبالتوبة تكفّر السيئات وإذا حسنت بدّل الله سيئات صاحبها حسنات.
وعبودية التوبة من أحبّ العبوديات إلى الله والله_تبارك وتعالى_يفرح بتوبة التائبين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة ثم رفع رأسه فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحرّ والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده) رواه البخاري ومسلم.
ولم يجيء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيرا عظيما في حال التائب وقلبه ومزيد هذا الفرح لا يعبر عنه.
ومن فضائل التوبة: أنها توجب للتائب آثارا عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة فتوجب له المحبة والرقّة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه فرتّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها بل لا يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها.
ومن تلك الآثار: حصول الذلوالانكساروالخضوع لله وهذا أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة _وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة_ فالذلّ والانكسار روح العبودية ولبّها ولأجل هذا كان الله_عز وجل_عند المنكسرة قلوبهموكان أقرب ما يكون من العبد وهو ساجدلأنه مقام ذلّ وانكسار ولعل هذا هو السّر في استجابة دعوة المظلوم والمسافر والصائم للكسرة في قلب كل واحد منهم فإن لوعة المظلوم تحدث عنده كسرة في قلبهوكذلك المسافر يجد في غربته كسرة في قلبه وكذلك الصوم فإنه يكسر سورة النّفس السّبعية الحيوانية كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله.
أيها الصائمون الكرام: ومع عظم شأن التوبة وعظيم بركاتها إلا أن هناك أخطاء يقع فيها كثير من الناس في باب التوبة وذلك ناتج عن الجهل أو التفريط وقلة المبالاة.
وإليكم نبذة مختصرة عن تلك الأخطاء على سبيل الإجمال إذ المقام لا يسمح بالإطالة وذكر الأدلة والتفصيل في الأقوال.
فمن تلك الأخطاء ما يلي:
أولا: تأجيل التوبة: فيجب على العبد_والحالة هذه_ أن يتوب من ذنبه وأن يتوب من تأجيل التوبة.
ثانيا: الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه: فهناك ذنوب خفية وهناك ذنوب يجهل العبد أنها ذنوب ولا ينجي من ذلك إلا توبة عامة مما يعلمه من ذنوبه ومما لا يعلمه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم) رواه البخاري في الأدب المفرد.
ثالثا: ترك التوبة مخافة الرجوع للذنب أو خوفا من لمز الناس أو مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة: وهذا خطأ يجب تلافيه فعلى العبد أن يعزم على التوبة وإذا رجع إلى الذنب فليجدد التوبة مرة أخرى وهكذا وعليه أن يدرك أنه إذا تاب عوّضه الله خيرا مما ترك.
رابعا: التمادي في الذنوب اعتمادا على سعة رحمة رب العالمين: وهذا خطأ عظيم فكما أن الله غفور رحيم فإنه شديد العقاب( ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين) (الأنعام: من الآية147).
خامسا: توبة الكذابين: الذين يهجرون الذنوب هجرا مؤقتا لمرضأو عارض أو مناسبة أو خوفأو رجاء جاه أو خوف سقوطه أو عدم تمكّن فإذا أتتهم الفرصة رجعوا إلى ذنوبهم فهذه توبة الكذابين وليست بتوبة في الحقيقة.
ولا يدخل في ذلك من تاب فحدثته نفسه بالمعصية أو أغواه الشيطان بفعلها ثم فعلها فندم وتاب فهذه توبة صادقة كما لا يدخل في ذلك الخطرات ما لم تكن فعلا متحققا.
سادسا: الاغترار بإمهال الله للمسيئين: وهذا من الجهل ومما يصد عن التوبة قال صلى الله عليه وسلم إذا رأيت الله_عز وجل_يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج) ثم تلا قوله_عز وجلفلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الّذين ظلموا والحمد للّه ربّ العالمين) (الأنعام:44-45) . أخرجه أحمد ورجاله ثقات.
قال ابن الجوزي رحمه الله فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل وكذلك كلّ مذنب ذنبا وهو معنى قوله_تعالى_: (من يعمل سوءا يجز به)(النساء: من الآية123). وربما رأى العاصي سلامة بدنه فظن أن لا عقوبة وغفلته عما عوقب به عقوبة).
وقال: (الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي فإن نارها تحت الرماد وربما تأخرت العقوبة وربما جاءت مستعجلة).
وقال: (قد تبغت العقوبات وقد يؤخرها الحلم والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل).
سابعا: من الأخطاء في التوبة اليأس من رحمة الله واليأس من التوبة: فبعض الناس إذا تمادى في الذنوب أو تاب مرة أو أكثر ثم رجع إلى الذنب مرة أخرى_ أيس من رحمة الله وهذا خطأ عظيم لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
اللهم إنا نسألك التوبة النصوح وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد.