الحمد لله القوي العزيز الجبار والصلاة والسلام على النبي الكريم المصطفى المختار وعلى آله وصحبه الأخيار الكرام الأطهار ومن اتبعهم واقتفى أثرهم ما تعاقب الليل والنهارأما بعد:
فإن الإسلام دين القوة فالمؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف والله-عز وجل-أمرنا بإعداد القوة وجاء الثناء في القرآن الكريم على القوي الأمين.
وإن من أسرار الصيام وآثار شهره الكريم أنه يبعث القوة في نفوس الصائمين وهذا ما سيتبين في ثنايا هذا الحديث إن شاء الله.
أيها الصائمون الكرام: هذه الحياة ميدان لا يفوز فيها إلا الأقوياء ونحن في عصر يكاد يكون شعاره:
"إن لم تكن آكلا فأنت مأكول وكن قويا تحترم".
ثم إن القوة ضربان: قوة مادية وقوة معنوية ومن مبادئ الإسلام أن القوة المادية قد تنتصر ولكن انتصارها لا يكون طويلا ولن يكون مفيدا.
ولقد قص القرآن الكريم علينا فيما قص: أن أمما كانت قوية في مظاهر الحياة المادية فعاثت في الأرض فسادا وحاربت أنبياء الله ورسله وأولياءه فكانت عاقبة أمرها خسرا.
وما خبر عاد وثمود وغيرهما من الأمم بغريب على من يقرأ القرآن (ألم ترى كيف فعل ربّك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) الّتي لم يخلق مثلها في البلاد (8) وثمود الّذين جابوا الصّخر بالوادي (9) وفرعون ذي الأوتاد (10) الّذين طغوا في البلاد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب (13) إنّ ربّك لبالمرصاد)
تلك هي نهاية الأمم التي أخذت من القوة المادية بأعلى نصيب ولكنها خلو من القوة الروحية والمعنوية.
وأما القوة المعنوية وحدها دون سند من القوة المادية -فيقرر الإسلام: أنه لا سبيل لها إلى النصر ولا شأن لها في توجيه الحياة فسنن الله ماضية لا تحابي أحدا كائنا من كان.
لا خير في حقّ إذا لم تحمه *** حلق الحديد وألسن النيران
وقد رأينا أمما وشعوبا عاشت في التاريخ هضيمة الحقّ كسيرة الجناح تسام في ديارها الخسف والهوان لأنها لم تسلك سبل القوة فانهزمت أمام الأقوياء.
والسبيل الصحيح إلى حياة كريمة سعيدة أن تتضافر المادة مع الروح على تقويم الإنسان وبناء معيشته وأن تمسك الأمّة بجناحين من قوة المادة وقوة الروح لا يطغى أحدهما على الآخر.
ومما أدبنا القرآن به أن أمرنا أن نقول: (ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار).
وكما أوجب علينا القرآن أن نصحّح العقيدة ونهذّب النفوس ونسمو بالروح -أمرنا بأن نعدّ القوة إلى أقصى ما نستطيع (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ اللّه وعدوّكم).
وكما أمرنا بأن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة-وهما من أبرز دعائم القوة الروحية المعنوية-أمرنا أن نضرب في الأرضونمشي في مناكبهاوألا ننسى نصيبنا من الدنيا.
ومما يقرره الإسلام: أن القوة المعنوية مع قليل من القوة المادية تغلب القوة المادية إذا هي فقدت الوازع النفسيّ والباعث المعنوي قال الله-عز وجل-:
(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصّابرين).
وفي معركة بدر أروع مثال شاهد على ذلكفالمسلون الثلاثمائة الذين انتصروا في بدر كانوا عربا ككفار قريش الذين بلغ عددهم في بدر ألفا وأولئك أقرباء هؤلاء ومن بلد واحد وميزات واحدة والسلاح الذي في يد الألف أكثر وأضر.
ولكن المسلمين كانوا يملكون من قوة العقيدة وقوة الخلق وقوة الروح ما لا يملكه أولئك الكفرة فانهزم الكفرة هزيمة سجلها القرآن كمثل رائع يدل على ما تستطيع القوة المعنوية أن تحرزه من نصر على القوة المادية إذا هي أخذت من قوة السلاح بالمستطاع ولو كان أدنى نصيب لأنها بذلك تستحق النصر والمدد الإلهي.
وكما ضرب القرآن المثل بالأمة التي تجمع بين القوتين فكذلك ضرب مثلا للفرد الذي يجمع بين القوتين فيفلح وينجح بموسى-عليه السلام-حين سقى للفتاتين الماء بقوة عضل وجسم ومشى معهما إلى أبيهما لا يرتفع طرفه إليهما عن حياء وتكرم وخلق نبيل (قالت إحداهما يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين).
وضرب القرآن المثل بالأمة التي تجمع بين القوتين فتسعد وتنتصر بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-قال-تعالى-: (محمّد رسول اللّه والّذين معه أشدّاء على الكفّار) وهذا عنوان القوة المادية (رحماء بينهم) وهذا عنوان القوة المعنوية (تراهم ركّعا سجّدا يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا) وهذا ثمرة الجمع بين القوتين وأبرز عناصر السعادة للأمة التي تجمع بينهما.
والصيام الذي فرضه الله على المسلمين يجمع بين القوتين جمعا رائعا متلائما يؤتي أحسن الثمار فهو من الناحية الصحية قوة للجسم يدفع عنه كثيرا من الأمراض ويشفيه من كثير من العلل.
وهو من الناحية المعنوية يعطي المسلم قوى معنوية متنوعة لها أكبر الأثر في سعادة الأفراد والجماعات فيعطيه: قوة الصبر وقوة النظام وقوة الطاعة وقوة التحمل وقوة الإيمان.
أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه القوى المعنوية ثم تجد سبيلها إلى الانهيار؟!
أترون جيشا يتحلى أفراده بهذه الأخلاق القوية يجد نفسه على عتبة الهزيمة؟!
أترون مجتمعا تسود فيه هذه الأخلاق يتطرق الفساد إلى قواعده وأسسه؟!
أترون المسلمين يوم بدر وقد كانت في السابع عشر من رمضان أترونهم استطاعوا أن يحرزوا هذا النصر لولا أن الله قيّض لهم هذا الصيام الذي بث فيهم القوة الروحية الكاملة فجعلهم يخوضون المعركة أقوياء أحرارا؟!
أترون معاركنا التي انتصرنا فيها في اليرموك والقادسية وجلولاء وحطين وغيرها هل كانت تتم بهذه الروعة المعجزة التي لا تزال تذهل كبار الباحثين في أسرارها لولا أن أهلها كانوا يتخلّقون بخلق الصائمين من عفةوسموّ وتضحية وتحمّل للشدائد وخضوع لله واستعلاء على كل ما سواه؟!!
هل تراهم يثبتون هذا الثبات لو أنهم خاضوا المعارك بنفوس المنهزمين الذين تغلبهم شهواتهموتستحوذ عليهم شياطينهم فلا يستطيعون مقاومة الجوع والعطش ساعات معدودة؟!
كلا ثم كلا!!
أيها المسلم الصائم: لا تنس وأنت تصوم رمضان أنه يراد منك أن تكون مثال القويّ الأمين فحذار أن ينسلخ عنك رمضان وأنت الضعيف الخائن.
وأيها المسلمون الصائمون: لا تنسوا وأنتم تصومون رمضان أن الله يريد أن تكونوا بالصيام أشداء على الكفار رحماء بينكم فاحذروا أن ينسلخ الشهر عنكم وأنتم ممن ينطبق عليه قوله-تعالى-: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشب مسنّدة يحسبون كلّ صيحة عليهم هم العدوّ فاحذرهم قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين يارب العالمين وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.