أخرج الحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَمَثَلُ الْأَجَلِ مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءَ، قَالَ لَهُ مَالُهُ: أَنَا مَالُكَ خُذْ مِنِّي مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا مَعَكَ أَحْمِلُكَ وَأَضَعُكَ فَإِذَا مِتَّ تَرَكْتُكَ، قَالَ: هَذَا عَشِيرَتُهُ، وَقَالَ الثَّالِثُ: أَنَا مَعَكَ أَدْخُلُ مَعَكَ وَأَخْرُجُ مَعَكَ مِتَّ أَوْ حَيِيتَ، قَالَ: هَذَا عَمَلُهُ»([1]).
-وفي رواية: «فَأَمَّا الَّذِي قَالَ خُذْ مِنْهُ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَإِنَّهُ مَالُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ عَشِيرَتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَهُوَ عَمَلُهُ»([2]).
-وأخرج الرامهرمزي في (أمثال الحديث) بسند ضعيف عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي ضَرَبْتُ لِلدُّنْيَا مَثَلًا لِابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ، مَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءَ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِأَحَدِهِمْ: إِنَّكَ كُنْتَ لِي خِلًّا، وَكُنْتَ لِي مُكْرِمًا مُؤْثِرًا، وَقَدْ حَضَرَنِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ خَلِيلُهُ ذَلِكَ: وَمَاذَا عِنْدِي وَهَذَا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ غَلَبَنِي عَلَيْكَ؟ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنَفِّسَ كُرْبَتَكَ، وَلَا أُفَرِّجَ غَمَّكَ، وَلَا أُؤَخِّرَ سَعْيَكَ، وَلَكِنْ هَأَنَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَخُذْ مِنِّي زَادًا تَذْهَبُ بِهِ مَعَكَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ.
قَالَ: ثُمَّ دَعَا الثَّانِي فَقَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ لِي خَلِيلًا، وَكُنْتَ آثَرَ الثَّلَاثَةِ عِنْدِي، وَقَدْ نَزَلَ بِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَقُولُ: وَمَاذَا عِنْدِي؟ وَهَذَا أَمْرُ اللَّهِ قَدْ غَلَبَنِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنَفِّسَ كُرْبَتَكَ، وَلَا أُفَرِّجَ غَمَّكَ، وَلَا أُؤَخِّرَ سَعْيَكَ، وَلَكِنْ سَأَقُومُ عَلَيْكَ فِي مَرَضِكَ، فَإِذَا مِتَّ أَتْقَنْتُ غُسْلَكَ، وَجَوَّدْتُ كِسْوَتَكَ، وَسَتَرْتُ جَسَدَكَ وَعَوْرَتَكَ.
قَالَ: ثُمَّ دَعَا الثَّالِثَ فَقَالَ: نَزَلَ بِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، وَكُنْتَ أَهْوَنَ الثَّلَاثَةِ عَلَيَّ، وَكُنْتُ لَكَ مُضَيِّعًا، وَفِيكَ زَاهِدًا، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: عِنْدِي أَنِّي قَرِيبُكَ وَحَلِيفُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَدْخُلَ مَعَكَ قَبْرَكَ حِينَ تَدْخُلُهُ، وَأَخْرَجُ مِنْهُ حِينَ تَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا أُفَارِقُكَ أَبَدًا».
فَقَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم: «هَذَا مَالُهُ، وَأَهْلُهُ، وَعَمَلُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَ: خُذْ مِنِّي زَادًا فَمَالُهُ، وَالثَّانِي أَهْلُهُ، وَالثَّالِثُ عَمَلُهُ»([3]).
1 - شرح الحديث وبيان المثل:
رحلة الإنسان في هذه الحياة محددة معلومة، يقطعها الإنسان من الميلاد إلى الوفاة في حركة متصلة وعمل دائب، يجمع المال لمعاشه، ويكوِّن الأسرة، ويعمِّر الحياة، حتى إذا قضى الأجل الذي كتبه الله له وجد نفسه يمضي وحيدا فريدا إلى عالم الآخرة، يبحث عمن يصحبه إليه ويؤنسه فيه، ويشبه النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث حالة الإنسان عند الموت ورغبته فيمن يصحبه في رحلته الجديدة برجل له ثلاثة أخلاء ارتبط بهم قلبه، وأفنى في خدمتهم عمره وجاءه الموت فأراد أن يصحبه أحدهم، فعرض أمره على أكثرهم حبا له وقربا منه، وذكره بما كان بينهما من الخلة والصحبة والإكرام، ورغب إليه في أن يخدمه في تلك الحال، فاعتذر الخليل الأول بأنه لا حيلة له مع قدر الله، ولا يمكنه أن يفرج الغم النازل، أو ينفس الكربة الحاصلة، وأنه لن يستطيع أن يتحرك معه خطوة واحدة، ولا يملك إلا أن يعرض نفسه ليأخذ منه ما يشاء ويدع ما يشاء.
فلما يئس منه اتجه إلى الخليل الثاني وعرض عليه ما عرض على الأول، فأجابه بأنه لا حيلة له في كشف هذه الغمة أو تنفيس هذه الكربة، وأنه ليس بإمكانه إلا أن يقوم على تمريضه ورعايته حتى تفارق روحه الجسد فيغسله ويحسن تكفينه، ثم يسير به إلى قبره فيودعه إياه وحيد فريدا ثم يرجع فيأكل تراثه ويقسم بين المستحقين ميراثه.
وعندئذ لم يجد غير ثالث الأخلاء وأهونهم في نفسه شأنا وأخسهم قدرا، فعرض عليه ما عرض على سابقيه، وهو يعتذر عما كان من هوانه عليه وتضييعه إياه وزهده في مصاحبته، فوجده أقرب الثلاثة منالا، وأحسنهم جوابا، وأشدهم به تعلقا، وقال له: أنا معك لا أفارقك في الدنيا ولا في الآخرة، أدخل معك قبرك، وأونسك في وحشتك، وأصحبك في رجلتك الجديدة، فأدخل القبر معك حين تدخل وأخرج معك حين تخرج، ولا تجدني مفارقا لك أبدا.
ثم فسر النبي صلي الله عليه وسلم هذا المثل: بأن الخليل الأول الذي لا يغادر مكانه ولا يتحرك مع صاحبه هو المال الذي ستنقطع صلته به بمجرد الموت لينتقل إلى غيره، ولا منفعة فيه إلا بما قدم منه صاحبه في حياته، وأما الخليل الثاني الذي يقوم على التمريض والغسل والتكفين والدفن فهو أهله، وأما الخليل المستمسك به الذي يدخل معه قبره ويخرج معه إلى حشره فهو عمله، مع أنه في حياته كان فيه من الزاهدين.
2 - غايات الناس في هذه الحياة:
مع أن الله تعالى نفى عن نفسه العبث في خلق الإنسان {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فإن الناس تتباين غاياتهم و مقاصدهم، فمنهم من غايته من الحياة الأكل والمتعة{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (محمد:12) ، وهمهم فيها الزينة و العرض الزائل {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14). وشعار هؤلاء: إنما الدنيا طعام، وشراب ومنام، فإن فاتك هذا فعلى الدنيا السلام. فهؤلاء حصروا همهم في جمع المال ومنعه، وفي نيل لذات الدنيا ومتعها، وفي التمتع والتكاثر في الأموال والأولاد، ولو أدى ذلك إلى إيقاد الفتن والشرور وإفساد الحياة، ما دام أحدهم يحقق متعته ويشبع رغبته ونزوته، ولم يدرك أولئك الغافلون أن ما هم غارقون فيه عرض عما قريب يزول، وصدق فيهم قول الله تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر/1-8].
ومن الناس من علم أن الحياة إلى نهاية، وأن متاعها إلى زوال، قال تعال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وأدرك حقيقة غايته وسرَّ وجوده الذي حدده الله تعالى بقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، وفهم أن العبادة المقصودة شاملة لكل عمل مشروع يؤديه الإنسان يبتغي به وجه الله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، وأيقن أن من واجبه عمارة الأرض باسم الله وفق منهج الله {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، وأدرك أن أسمى واجباته هداية الناس إلى الحق, وإرشادهم جميعا إلى الخير, وإنارة العالم كله بشمس الإسلام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ و َتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:77-78).
والناس في حياتهم تتباين تصرفاتهم وفق هذه الغايات التي حددوها لأنفسهم، فالفرقة الأولى تنتهي إلى شقاء متصل وعذاب اليم، وتستقر الفرقة الثانية في الآخرة على سعادة دائمة ونعيم مقيم {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18-19]، وأخرج مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»([4]).
على أن متاع الدنيا كله لا يساوي لحظة في النار، وتعب الدنيا كله لا يساوي لحظة في الجنة، فقد أخرج مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ»([5]).